من الصعب اختزال ربع قرن من الدبلوماسية الملكية في مقال واحد، خاصة حينما يتعلق الأمر بملك جعل من السياسة الخارجية ركيزة من ركائز تصوره للحكم والسلطة، ورافعة من رافعات التنمية الشاملة، وجسراً نحو الاندماج الإقليمي والمساهمة بفعالية في المجهود الدولي لتحقيق الأمن والاستقرار العالمي. ويمكن الجزم بأنّ المغرب حقق عدة مكاسب استراتيجية خلال العقدين الماضيين يأتي في مقدمتها تحوّل الدبلوماسية المغربية تدريجياً في ملف الصحراء من موقع ردود الفعل إلى موقع الفاعل الرئيسي الذي يقود “اللعبة”، ومن موقع تدبير النزاع يوماً بيوم إلى مرحلة السّير بخطى حثيثة نحو حسم الصراع وطيّ الملف نهائياً. وبين هذا الموقع وذاك استطاع المغرب أن يعزّز مكانته الجيوسياسية كمخاطب يحظى بالثقة والمصداقية على الصعيد العالمي، وكرائد في المنطقة الإفريقية والعربية على أكثر من صعيد.
ومن خلال استقراء وتحليل ما جرى خلال خمس وعشرين سنة الماضية، سيتضح أنّ الجالس على العرش كان يملك منذ الوهلة الأولى تصوراً واضحاً للعلاقات الدولية ولكيفية إدارة التجاذب بين القوى المهيمنة من أجل إعادة تموقع المغرب على الخارطة العالمية. ويظهر ذلك من خلال تنويع الشراكات الاستراتيجية مع الدول الصاعدة مثل روسيا والصين، واقتحام عوالم جديدة مثل الهند والبرازيل واليابان ودول شرق ووسط إفريقيا، دون التفريط في الشركاء التقليديين وعلى رأسهم دول الخليج العربي والولايات المتحدة والدول الأوربية وغرب إفريقيا.
إنها معادلة ليست بالسهلة بل هي أشبه بمغامرة السّير فوق حقل الألغام. وقد تعرّض المغرب خلال العقدين الماضيين، وبسبب مقاربته تلك، إلى الكثير من المضايقات التي كانت تأتي أحياناً من أشقائه، كما تعرض لمحاولات الضغط والابتزاز من طرف بعض حلفائه الذين لم يستسيغوا استقلالية قراره.
وهذا ليس غريباً لأنّ العلاقات بين الدول مبنية أولاً على المصالح، وثانياً على موازين القوى. ونجاح المغرب يكمن بالأساس في توظيفه لهذين المُحدّدين باحترافية، بالإضافة إلى تعامله بذكاء تاريخي مع المُتغيرات الدولية في الساحل والصحراء، وأحداث الربيع العربي، والحرب الأوكرانية، والحرب التجارية بين الصين والدول الغربية، وغيرها من العوامل الجيوسياسية.
لقد كانت بصمة محمد السادس واضحة في التعامل مع على كلّ هذه التغيرات الجوهرية لتحقيق الوثبة الكبرى في السياسة الخارجية للمملكة ارتباطاً بجدلية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على المستوى الداخلي. فقد أدرك العاهل المغربي أنّه لا يمكن تسويق دبلوماسية قوية في غياب استقرار داخلي، فكان التركيز على فتح ورشين كبيرين، الأول همّ المصالحة مع الذات من خلال الإصلاحات السياسية والانتقال الديمقراطي والإنصاف والمصالحة. والورش الثاني ركّز على الاستثمارات الكبرى في كل المجالات الاقتصادية والبنيات التحتية والفوقية مما جعل من المغرب قطباً صناعياً صاعداً ومركزاً إفريقياً للمال والأعمال. وهو ما أعطى إشعاعاً دولياً للدبلوماسية المغربية وفتح لها أبواب العواصم العالمية.
وقد تكللت هذه المقاربة الملكية بالكثير من النجاحات الدبلوماسية التي نذكر منها على وجه التخصيص عودة المغرب إلى عائلته الإفريقية سنة 2017 كنتيجة طبيعية لسلسلة من الزيارات الملكية فاقت في حصيلتها الخمسين زيارة لأكثر من ثلاثين بلداً إفريقيا، كانت كلها وبدون استثناء زيارات عمل أثمرت استثمارات مباشرة بوّأت المغرب مرتبة ثاني أكبر مستثمر إفريقي في القارة السمراء والأول في غرب إفريقيا، وباستثمارات ضخمة تصل أحياناً إلى 3 مليارات دولار في مصنع واحد للأسمدة الفلاحية كما هو الشأن في كلّ من إثيوبيا ونيجيريا.
بالإضافة إلى المبادرة الأطلسية لدول الساحل وأنبوب الغاز أو “السيل الإفريقي” الذي سيربط نيجيريا بالمغرب مروراً بأحد عشر بلدا إفريقياً وصولاً إلى أوربا. وهذه بصمة أخرى للدبلوماسية الملكية التي أعطت للأفارقة نموذجاً جديداً في الدبلوماسية ينبني على تحقيق المصالح الاقتصادية المشتركة والاندماج الإقليمي الملموس، بدل الغرق في مهاترات أيديولوجية مزقت القارة وعرقلت تنميتها طيلة نصف قرن.
ولم تتوقف منجزات السياسة الإفريقية لمحمد السادس عند الاستثمارات الاقتصادية، بل تجاوزتها إلى الاستثمار في تحقيق الأمن الشامل للقارة سواء على المستوى الروحي والديني أو على مستوى محاربة الجماعات المسلحة والجريمة المنظمة العابرة للحدود، وهو ما جعل الأمم المتحدة تختار المغرب لاحتضان مكتبها الإفريقي لمكافحة الإرهاب وتكوين الأطر وبناء القدرات في هذا المجال. كما دشن المغرب سياسة للهجرة حولته إلى بلد لاستقرار المهاجرين من دول جنوب الصحراء، وقد ردّ الأفارقة التحية بتسليم العاهل المغربي درع الريّادة الإفريقية في مجال الهجرة، وتم تكليفه بإعداد الخطة الإفريقية للهجرة واختيار المغرب لاحتضان المرصد الإفريقي في سياسات الهجرة.
على الصعيد العربي شكلت القمة المغربية الخليجية بالرياض في 20 أبريل 2016، منعطفاً استراتيجياً سيكون له ما بعده على مستوى التوازنات والتحالفات في المنطقة ومجالاتها الحيوية المباشرة في إفريقيا والعالمين العربي والإسلامي. وقد أبرزت إلى العلن وبشكل غير مسبوق مكانة المغرب في تعزيز الأمن القومي لدول الخليج، وأكدت التزام دول الخليج في دعم المغرب لمواجهة أي تهديدات إقليمية أو دولية قد يتعرض لها في الدفاع عن وحدة وسلامة أراضيه. وهو مكسب استراتيجي اكتسى أهمية خاصة على خلفية تصريح الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون والمؤامرة التي يقودها النظام الجزائري ضد المغرب منذ خمسة عقود.
من جهة أخرى سعى المغرب خلال نفس الفترة، إلى تعزيز علاقاته مع واشنطن باعتبارها القوة العظمى المهيمنة اقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا، ولها تأثير مباشر على حلفائها الأوربيين. فاستطاع المغرب الحصول على وضع الحليف الاستراتيجي من خارج “الناتو” سنة 2004، وتوقيع اتفاق التبادل التجاري الحرّ، ثمّ احتضان المغرب مناورات الأسد الإفريقي وهي أكبر مناورات عسكرية على الأرض الإفريقية، بالإضافة إلى التعاون الأمني والاستخباراتي الذي اعترف للمغرب بدور الشريك الفعال والمصدر للاستقرار، وهو ما أهل المملكة للرئاسة المشتركة للتحالف الدولي ضد داعش. كل هذه الخطوات وغيرها من عوامل “القوة الناعمة” ارتباطاً بالجاليات المغربية عبر العالم ساهم في الوصول يوم 20 دجنبر 2020 إلى الاعتراف الأمريكي الصريح بالسيادة المغربية على أقاليمه الجنوبية في الساقية الحمراء ووادي الذهب، وهو ما شكل منعطفاً استراتيجيا باتجاه الطيّ النهائي للنزاع في الصحراء.
بعد هذا التحول التاريخي في الموقف الأمريكي، لم يكن مفاجئاً أن تتجه كل الدول الأوربية إلى مراجعة مواقفها لتتلاءم مع زعيمة التحالف الغربي منذ الحرب العالمية الثانية.
ولعلّ ثاني أهم عاصمة بعد واشنطن، كانت هي مدريد التي اعترفت بسيادة المغرب وإن بشكل ضمني وعبر ثلاث خطوات تضمنتها الرسالة التي وجهها رئيس حكومتها في 18 مارس 2021 إلى العاهل المغربي، تلتها زيارة السيد بيدرو سانشيز إلى الرباط وتوقيع إعلان مشترك تضمن خارطة طريق بين البلدين. وهو ما دفع بالنظام الجزائري إلى سحب سفيره وتجميد اتفاقية الشراكة مع مدريد بالإضافة إلى سلسلة من الإجراءات الانتقامية همت المجالات الاقتصادية والبنكية وغيرها.
وجدير بالذكر أنّ الخطوة الإسبانية جاءت بعد محاولة فاشلة أعلنتها وزيرة خارجيتها أرانشا لايا لحمل الإدارة الديمقراطية الجديدة في واشنطن على العدول عن موقف سابقتها في عهد الجمهوريين. ثم تتالت إعلانات العواصم الأوربية الداعمة للموقف والمقترح المغربيين لحلّ النزاع في الصحراء، ويمكن أن نذكر منها برلين وأمستردام، وبروكسل، وصولاً إلى الإعلان المنتظر من طرف باريس بمناسبة الذكرى الفضية لعيد العرش، وهو ما سبقه الإعلان الانتحاري للخارجية الجزائرية يوم 25 يوليو 2024 والذي هاجم الموقف الفرنسي قبل الإعلان عنه.
ولا يمكن الحديث عن حصيلة ربع قرن دون الإشارة إلى علامتين بارزتين في “بالماريس” الدبلوماسية الملكية التي دشنت للمرحلة الجديدة. الأولى تتعلق بتطهير معبر الكركرات في 13 نونبر 2020 الذي أبان عن علو كعب العبقرية الملكية سياسيا وعسكرياً. والثانية، هي إسقاط القناع عن الجزائر وكشف أوراقها حتى أصبحت كلّ مساعيها عبارة عن ردود أفعال قاتلة، عمقت عزلتها الدبلوماسية إفريقيا وعربياً ودولياً.
وختاماً وجبت الإشارة بأنّ النتائج المحققة يعود الفضل في جانب مهم منها إلى مقاربة الحزم والحسم التي عبر عنها محمد السادس في سياسته الخارجية، فقد أكد في خطابته أنّ المغرب “لا يتفاوض على صحرائه” وأنّ “مغربية الصحراء لم تكن يوماً ولن تكون أبداً مطروحة على طاولة المفاوضات”.
وأضاف أنّ المغرب ينظر “إلى العالم بمنظار الصحراء المغربية” وأنّ “المغرب ينتظر من شركائه أن يوضحوا مواقفهم من الصحراء المغربية بشكل لا يقبل التأويل”.
وأكد في مناسبات أخرى أنه “لن يكون هناك حلّ بدون تحميل المسؤولية للجزائر”. وقد أعطى هذا الخطاب الحازم لكل دول العالم وضوحاً في الرؤية من أجل حسم مواقفها. وشكل المغرب بذلك قطيعة مع الغموض والتساهل الذي كان في السابق يفسح المجال للتردد في المواقف وإمساك العصا من الوسط.