يكتسب الايمان بالغيب معناه الحقيقي حين يوضع في سياقه المعرفي، باعتباره افقا يتجاوز حدود اشتغال العقل المحسوس.
إن الحواس البشرية، بحكم طبيعتها، تعلم الانسان نوعا معينا من المنطق، قائما على الملاحظة والتجربة والتكرار: النار تحرق، والماء يغرق، والاشياء تسير وفق علاقات سببية مستقرة، هذا المنطق ضروري لتنظيم الحياة، لكنه يظل محكوما بمجال “الشهادة”، عاجزا عن الاحاطة بكل اشكال الوجود.
إن المشكلة لا تكمن في هذا المنطق في ذاته، وإنما في تحويله الى معيار مطلق للحقيقة، وهكذا عندما يصبح ما تدركه الحواس هو الحد النهائي للفهم، يتحول العقل من اداة معرفة الى قيد ابستمولوجي يمنع التفكير فيما يتجاوز الممكن التجريبي.
ونلاحظ أن هناك فرقا جوهريا بين عقل يعمل داخل النسق المغلق للطبيعة، وعقل منفتح على امكان تدخل الغيب في كسر هذا النسق..
وتجسد قصة ابراهيم عليه السلام مثالا واضحا على هذا الكسر، اذ ان النظام السياسي الذي حكم عليه بالحرق انطلق من منطق سببي متماسك، مفاده ان من يلقى في النار يحترق حتما، إلا ان ما وقع جاء على خلاف كل التقديرات، فلم تحرق النار ابراهيم، ليس لان القاعدة في ذاتها باطلة، إنها فقط مرتبطة بعالم محسوس..
ومن ثم لا تنقض هذه الواقعة العقل، بقدر ما تضعه في موضعه الصحيح، وتنزع عنه وهم الاكتمال، وتعيد ضبط العلاقة بين السبب والمسبب ضمن افق أوسع..أي أفق الغيب..
ويتعمق هذا المعنى اكثر في قصة نوح وابنه: نوح يصنع الفلك في ارض يابسة، وهو فعل يبدو غير منطقي وفق كل المعايير العقلانية المألوفة، لأن السفن تبنى قرب الماء، والطوفان الشامل فكرة لا يسندها اي تصور علمي اعتيادي، لذلك كان استهزاء قومه مفهوما، بل مبررا من زاوية “عقلانية” خالصة.
إن العقل الذي لم يترب على امكان تصديق الغيب لا يجد ما يمنعه من السخرية (ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه)، لانه لا يملك ضمن منظومته المعرفية سببا معقولا لتعليق احكامه.. لذلك من الممكن أو المرجح بفعل منطقك المحسوس ان تنساق مع منطق قوم نوح أو قوم لوط.. (وما قوم لوط منكم ببعيد)..
وعندما تحقق الطوفان، تصرف ابن نوح ضمن المنطق نفسه، فرأى في الجبل ملاذا طبيعيا، وافترض ان الماء مهما ارتفع فلن يبلغ قمته (قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء)، وهو استنتاج يترتب عنه قرار يمكن ان يتخذه اي شخص عقلاني يعمل ضمن حدود المنطق المحسوس.
هذا الافتراض، في حد ذاته، معقول، بل منسجم مع المعرفة الطبيعية، فالامطار تقاس، والفيضانات لها حدود، ولا يوجد في التجربة الانسانية ما يدعم فكرة غمر الجبال بالماء.
إن قرار ابن نوح لم يكن جهلا، كان استنتاجا عقلانيا مبنيا على معطيات حسية..
لكن ما اغفله هذا القرار هو ان الحدث لم يكن حدثا طبيعيا عاديا، إنه واقعة يتداخل فيها الغيب مع الشهادة، وهكذا يتحول المنطق ذاته من اداة نجاة الى سبب للهلاك.
إن العقل الذي يصلح في السياقات العادية، يصبح قاصرا حين يواجه واقعا استثنائيا يتجاوز قوانين الطبيعة المألوفة، ويصبح الجبل الذي يمثل النجاة في الحسابات البشرية، رمزا للهلاك حين يكون الحدث خارج اطار الحساب.
وتوضح هذه المفارقة ان العقل ليس ضمانة مطلقة للسلامة، وان المنطق قد يقود الى نتائج كارثية اذا اشتغل في مجال لا يملك مفاتيحه، فالمشكلة ليست في العقل، وإنما في عزله عن افق اوسع من المعرفة.
إن ابن نوح لم يهلك بسبب جنون، لكن بسبب “عقلانية مادية”، حسية، منغلقة على عالم الشهادة.
وقصة نوح مع ابنه هي بنية متكررة في التجربة الانسانية، فالطوفان لا يكون دائما ماء، وقد يتخذ اشكالا أخرى، وفي كل مرة يجد الانسان نفسه امام اختيارين: التمسك بمنطق مألوف يمنحه شعورا زائفا بالامان، او الانخراط في خيار يبدو غير عقلاني لكنه وحده يملك مفتاح النجاة.
وفي هذا الباب تتضح وظيفة القران الكريم بوصفه نصا يعيد تشكيل الوعي (بصائر)، عبر تحريره من ادعاء الاكتفاء الذاتي، فهو يضع الانسان امام واقع مزدوج، واقع الشهادة وواقع الغيب، ويدربه على اتخاذ القرار في منطقة التماهي بينهما..
إن الخطر الحقيقي هو في اختزال الوجود فيما تراه العين وتقيسه الادوات، وحين يفاجئنا “الطوفان”، قد يكون اخطر ما يواجهنا هو “المنطق” الذي عشنا به طويلا، منطق يبدو عقلانيا، لكنه في لحظة معينة يتحول الى منطق هلاك.
في نظري ينبغي أن يدخل الانسان في حصة تدريب يومي على مجاوزة المنطق الحسي المألوف، والانفتاح على عالم رحب لا حدود له، عالم يتعدى الحواس، من أجل الاستئناس شيئا فشيئا بمنطق جديد يساعدنا على اتخاذ قرار النجاة في لحظة العاصفة أو الطوفان.. وما ذلك عنا ببعيد..
إن القران وحده يؤسس لنمط تفكير يتجاوز اختزال الحقيقة في منطق الحس والتجربة، ويدرك ان بعض اللحظات المصيرية لا تحسم بمعايير الملاحظة و”المنطق” وحدهما، قد يحتاج الامر الى “بصيرة” منفتحة على عالم الغيب.
ومن هذا المعنى يصف القران نفسه بانه “بصائر”: (قد جاءتكم بصائر من ربكم فمن ابصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما انا عليكم بحفيظ). صدق الرحمن.
إنه باختصار “فقه أو قانون النجاة”.. علينا أن نتعلمه قبل فوات الأوان..















