
5 يوليو 2024، وزير الميزانية فوزي لقجع يؤكد من داخل البرلمان أن “التمويلات المبتكرة” مكنت الدولة المغربية من جمع 105 مليارات درهم، بعد تفويت قرابة 10% من أصول الدولة المقدرة بحوالي 800 مليار درهم. الداعي، حسب الوزير نفسه، استعمال الأموال المتأتية من عمليات التفويت لِـ “تجويد الخدمات العمومية”.
التمويلات المبتكرة ما هي إلا عملية تفويت مع إعادة كراء، تقوم بها الدولة لأصول عمومية كالمستشفيات والجامعات، حيث “تبيع” الأصل لمؤسسات عمومية كصندوق الإيداع والتدبير والصندوق المهني المغربي للتقاعد. بعدها، تبدأ الدولة بدفع سومة كراء سنوية للمؤسسة العمومية المستحوذة على الأصل مدة تتراوح بين 25 و30 سنة.
العملية إذن هي اقتراض واستدانة، حيث تستلف الدولة من نفسها (مؤسسة عمومية تُقرِض الخزينة) بفائدة تقارب 6%. خلال مدة العقد، تسترد المؤسسة العمومية مبلغ السلف مع الفائدة، قبل إرجاع الأصل بعد انتهاء التعاقد.
التمويلات المُبتكرة، التي انطلقت في عهد رئيس الحكومة السابقة سعد الدين العثماني، ثم إقرارها أولا كآلية “استثنائية” للحصول على سيولة مالية عند الحاجة، دون اللجوء للاستدانة بصيغها التقليدية: السندات المحلية أو الدولية، القروض. لتتحول نفس تلك التمويلات في عهد حكومة عزيز إلى “خيار استراتيجي” لا رجعة عليه. تحولنا بقدرة قادر، من الاستثناء إلى العادة!!
في تبرير لجوئها المكثف لتفويت أصول الدولة إلى مؤسسات الدولة، مع تحميل المواطن المُرتفق الأقساط والفوائد، تقول الحكومة على لسان فوزي لقجع أن المبرر تجويد الخدمات، و”أن لا يضطر مواطن إلى قطع 600 كيلومتر لإجراء فحص بالأشعة”!
الواقع يخبرنا أن عهد (أكوا حكومة) التي استفادت من النصيب الأكبر من تلك التمويلات، بواقع 80 مليار درهم بين 2022 و2024، عرف أكبر تدهور لقطاعات أساسية كانت الأكثر استهدافا ببيع أصولها عبر التمويلات المبتكرة: الصحة والتعليم. عشرات المدارس العمومية تم هدمها أو تفويت عقارتها للخواص. أما الصحة العمومية ففضيحتنا -كما يقول المصريون- بجلاجل. أين اختفت إذن، وأين صُرفت، 80 مليار درهم سيدي الوزير؟
لقجع، وخلال نفس الجلسة البرلمانية المشار إليها أعلاه، ضرب مثلا في قضية تحويل أموال الأصول إلى استثمارات بـ 1,6 مليار درهم تم بها كراء المستشفى الجامعي ابن سينا (القديم) بالرباط، وتحويل المبلغ لتمويل بناء المستشفى الدولي الجامعي الجديد ابن سينا 2. جيدا جدا سيدي الوزير، شكرا على هذه المعلومة القيمة. ولكن، أين ذهبت باقي الـ 78 مليار درهم؟ الجواب: صوت صرصار الحقل!!!
مآلات أكثر من 80 مليار درهم حصلت عليها الحكومة من تفويت أصول الشعب لمؤسساتها، وتأدية القرض من فواتير المُرتفقين، ليست سوى تساءل من عدة تساؤلات لم يُجب عنها السيد فوزي لقجع، أمام “بر أمانيين” آخر همهم الحرص على مصير أموال المواطنين.
فلسفة صرف تلك الأموال سؤال آخر لا يبدو أن السيد الوزير، ولا رئيسه عزيز، مهتمون بالإجابة عنه. فمع جهل مصير عشرات مليارات الدراهم تبرز طريقة صرفها: هل خُصصت لتشييد استثمارات إنتاجية تجلب أرباحا تغطي الفوائد؟ أم تم تخصيصها لسد العجز وأداء نفقات عادية؟!
على مستوى الوضع في الميزانية، أشار تقرير للمجلس الأعلى للحسابات عام 2021 إلى ضرورة تسجيل تلك “التمويلات المُبتكرة” في خانة الديون الداخلية، على اعتبار أن الدولة تؤدي أقساط سنوية لتغطيتها. الحكومة، في مواجهة جطو المشاكس حينها، أصرت على تسمية العملية بـ “التفويت”، مع رفضها في نفس الوقت إخراج تلك الأصول من خانة الممتلكات العمومية. ودبا غير رصُّو معنا؛ واش بيع ولا اقتراض؟!!
نفس التمويلات المبتكرة يتم التصرف فيها دون قانون مُؤطر، وبالتالي دون رقابة ولا تقييم برلمانيين. رقابة غائبة عما يبدو أنه تنافس بين مديريات الدولة؛ فجهة تخرج للأسواق الوطنية تطلب تمويلا من صندوق التقاعد (مثلا) عبر سندات بمعدل فائدة 3%، ومديرية أخرى تُفَوِّت مستشفى جامعي لنفس صندوق التقاعد بفائدة مضاعفة 6%. في ظل غياب الرقابة، يبقى جلب الأموال -بأي طريقة- الهدف الذي يعلو ولا يُعلا عليه!
أخيرا، تبقى موثوقية وحكامة هذه القروض محل تساءل حتى للمؤسسات العمومية التي تمنحها. ففي الوقت الذي يحوم فيه شبح الإفلاس حول صناديق التقاعد، يُطرح سؤال جدوى دفع تلك الصناديق أموالا طائلة فورية مقابل استئجار أصول صعبة التعبئة، تمتص بكثافة سيولتها المالية، وبالتالي تزيد من صعوبة وضعها المالي. ما قد يؤثر على إيفاء صناديق الاحتياط المُقرِضة بالتزلماتها أمام أصحاب الحقوق، مقابل ماذا؟ إرضاء لنهم حكومة فشلت في إيجاد “تمويلات مُبتكرة” حقيقية.
للقصة بقية…