يمكن تحليل الصراعات الجارية في الشرق الأوسط ـ من وجهة نظري الخاصة ـ من زاويتين متداخلتين، تشكلان معا إطارا لفهم الحروب في أبعادها الظاهرة والخفية:
الزاوية الأولى: ترتبط بالبنية المادية للصراع، حيث تتحدد مسارات النزاع وفق شروط مادية موضوعية، تحكمها منطق القوة وتوازنات الردع والهيمنة، وتصبح أدوات الحرب والتكنولوجيا العسكرية، وامتلاك وسائل الإخضاع والتهديد عناصر حاسمة لا يمكن تجاهلها، فهي التي تحدد معالم المعركة وحدود المناورة، كما تنطبق على جميع الفاعلين، سواء كانوا دولا أو جماعات، فإسرائيل وإيران وبقية القوى الإقليمية تجد نفسها منخرطة في هذا المنطق، وهو منطق لا يستثني أحدا، ويخضع لقوانين مادية قاسية تشكل جوهر السياسات الواقعية في أزمنة الحرب والسلم.
الزاوية الثانية: تضعنا أمام محدودية القراءة المادية حين تفرد وحدها لتفسير الصراعات ذات الطابع الديني أو الإيماني، إذ تغفل عن البعد الغيبي الذي يتجاوز نطاق الحس والإدراك البشري، ويتصل بعالم غير مرئي يشكل ساحة حقيقية لحسم المعارك المصيرية، هذا البعد الغيبي، الذي يفرد له القرآن الكريم مساحة خاصة، يعد محورا حاسما في مجريات الصراع، حيث كانت معارك الأنبياء والرسل في جوهرها تجليات لصراع أعمق يدور في كواليس الغيب، ويترجم على الأرض في شكل مواجهات ظاهرها بشري، وباطنها تدافع بين قوى غير منظورة.
في معركة بدر كانت المواجهة ساحة لصراع مزدوج، في ظاهرها سيوف تتقاطع ومقاتلون يتموضعون وخطط تدار، وفي باطنها ملائكة تنزل لنصرة المؤمنين، وإبليس يحشد أتباعه ويهمس في صفوف خصومهم.
لقد استوجبت تلك المعركة وجود قائد يمسك بخيوط الجبهتين في آنٍ واحد، يوجه الصفوف في عالم الشهود، ويقود المعركة في فضاء الغيب، وقد تجلى هذا القائد الفذ في شخص محمد صلى الله عليه وسلم، الذي حسم الحرب على المستويين، فكانت الغلبة له، نصرا مؤيدا في العالمين معا.
وينسحب هذا النموذج كذلك على مواجهة موسى لفرعون، وهي من أعظم المواجهات التي سجلها التاريخ الإيماني، فبالرغم من تفوق فرعون المادي وجبروته الذي بلغ حد قتل الأبناء واستحياء النساء، إلا أن موسى، الضعيف في الظاهر، استطاع أن يقود معركة موازية بعون من قيادة غير مرئية، وانتصاره كان امتدادا لتدبير غيبي يستعصي على الحسابات التقليدية، وفي مثل هذه الصراعات، لا تكون نتائج المعركة رهينة بما يراه الناس من أسباب، وإنما أيضا بما لا يرونه من سنن كونية تتجلى عند بلوغ الطغيان مداه..
إن ما يجري اليوم في فلسطين، وخاصة في قطاع غزة، هو استمرار ـ دائما من وجهة نظري ـ لمعركة ذات طابع إيماني عميق، فهناك قوة باغية ومهيمنة، تمارس القتل والتدمير بتفوق تقني هائل، تقابلها فئة مستضعفة مقطوعة عن كل سبل الدعم، لكنها متشبثة بحقها في الأرض وفي الحياة، وما يواجهه الفلسطينيون اليوم من إبادة وتجويع يفوق ما تعرض له بنو إسرائيل في عهد فرعون، ورغم ذلك يظل الطغيان الصهيوني عاجزا عن كسر إرادة غزة، هذا العجز هو الدليل على أن المعركة تسير باتجاه يعاكس منطق القوة، ويخضع لمنطق آخر يستمد أدواته من عالم الغيب..
وما تشهده الساحة اليوم لا يعدو أن يكون مسارا تمهيديا (مقدمات) لمسار النصر الموعود، إذ إن شروط هذا النصر، وفق السنن القرآنية، لم تكتمل بعد، فالشرط الجوهري الغائب هو ظهور القائد الذي يملك القدرة على إدارة معركتين في آن واحد: معركة الشهود الظاهرة، ومعركة الغيب الباطنة.
ذلك أن جميع المواجهات ذات الطابع الإيماني التي حسمت عبر التاريخ لم تحسم بتفوق عددي أو تقني، بل بقيادة استثنائية تستمد قوتها وبصيرتها من عالم غير مرئي، عالم يتجاوز الإدراك الحسي المباشر.
وهذه سنة إلهية مضطردة، لم تتبدل ولم تتغير، تجري في مسار التاريخ حين يبلغ الطغيان ذروته، وتستدعي قيادات ترى بعينين: عين في عالم الواقع، وأخرى في عالم الغيب، تقرأ المشهد بنور القرآن وتسير بخطى مستلهمة من وحيه، ولأن القرآن هو عين الغيب، فإن من يعيش به ومعه إنما يسكن العوالم كلها في آن، ويقود من موقع لا يراه الناس، ولكن أثره يمتد فيهم جميعا..
إن الحل موجود في القرآن اي في عالم الغيب، فمن منا قادر على أن يجد هذه المعادلة الايمانية المفقودة لتحرير القدس وتحرير البشرية من الظلم والطغيان؟؟؟
والله أعلم وهو علام الغيوب.