إعلان “جمهورية ناغورني قره باغ” عن حلِّ نفسها وأنّها “ستزول من الوجود” خلال أشهر نهاية هذه السنة، وتسليمها الإقليم لجمهورية أذربيجان ودون أن ينفعل العالم لذلك، وخاصة الاتحاد الأوروبي، يؤشّر من جديد على نفور المجتمع الدولي من الانفصال ومن الحركات الانفصالية.
إنه نزاع عسكري دام لعقود وكان من مُؤَجِّجات الحرب الباردة، بل إنه من مُخلَّفاتها. وها قد وَضع له استسْلام الانفصال نقطة النهاية، ليتخلص العالم من انْشغال زائد بهمٍّ “مُلَخبط” وعلى هامش التاريخ، لأن المفاهيم التي تؤَطِّر صراعات الوضع الدولي تغيرت ولم تعد النزعة الانفصالية ضمْنَها. هذا هو اليوم مجرى التاريخ وتوجُّه السياسة الدولية. نتذكر كيف اعترضت الدولة الإسبانية على المسْعى الانفصالي لكاتالونيا، وساندها الاتحاد الأوروبي بقوَّة. ونتذكر اعتراض الدولة العراقية على مُحاولة انفصال الإقليم الكُردي، وأيّدها في ذلك المجتمع الدولي بحماس.. والإقليمان يتمتَّعان بحُكم ذاتي واسع ومريح منذ عقود، لم يقبل العالم أن يُجاوزاه إلى حالة انفصالية.
عديد الحركات الانفصالية في مناطق من هذا العالم صحَّحَت أو راجعت أو عدَّلت صِلاتها بمجرى التاريخ. تحررت من أوهامها الانفصالية، بعد قتال دام لأزيد من أربعين سنة. ألْقت سلاح “العنْف الثوري”، وتمَنْطقت بأدوات الفعل الديمقراطي، واندمجت في مجتمعاتها وفي فضاءاتها السياسية.. في آسيا، في أميركا اللاتينية وفي أوروبا. لأنها حركات كانت ممتلكة لقرارها ومُنتجة لتوجُّهاتها. لم تكن مملوكة لدول وأداة في إستراتيجياتها.
ستيفان دي ميستورا المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة لقضية الصحراء المغربية، تحرَّك في جغرافية المنطقة المعنية بالنزاع، وحواليْها، في الأسبوع الأول من سبتمبر – أيلول الماضي، في محاولة تفعيل قرارات مجلس الأمن المتعلقة بالموضوع، بدءًا باستئناف عقد مُفاوضات المائدة المستديرة، والّتي جمعت في سوابقها كُلاًّ من المغرب، الجزائر، موريتانيا وحركة بوليساريو.. وطبعا، لتحضير مضمون الإحاطة التي سيقدمُها لمجلس الأمن يوم 16 أكتوبر – تشرين الأول الجاري، وفيما يشبه الصدفة، ولو أن “اللُّعبة” السياسية الدولية، ومن جانب كبارها، لا تفسِح للصدف مجالا إلا لِمامًا.
زار المنطقة في إبَّان زيارة دي ميستورا، جوشوا هاريس، مُساعد وزير الخارجية، والمكلف بشمال أفريقيا في وزارة الخارجية الأميركية. وقد بدأ زيارته بتندوف، حيث مخيمات قيادة وميليشيات بوليساريو والمحتجزين فيها من المغاربة الصحراويين. الدبلوماسي الأميركي عالي المستوى، نَصح مُخاطبيه في تندوف بأن عليهم العمل من أجل “تسوية واقعية” لنزاعهم مع المغرب. لم تكن في حقيبته غير تلك الجملة.. والجملة وزنا وحجما، هي من الكثافة بحيث لن تسع حقيبته الدبلوماسية غيرَها. الجملة أوْجعت سياسيا جماعة بوليساريو.. “التسوية” تنسِفها و”الواقعية” تُعرِّيها.
قيادة الجزائر أعارت بوليساريو تعريفا انفصاليا، جرَّدها من أصلها الوطني الوحدوي عند تأسيسها بداية سبعينات القرن الماضي. كانت في أصلها ضد الاستعمار الإسباني، ومن أجل استرجاع الأقاليم الصحراوية إلى الحُضن المغربي. فَحوَّلتها المشاغبات العابثة للعقيد الليبي معمر القذافي ضد الملك الحسن الثاني، ومعه القيادة الجزائرية إلى مُعاداة وطنها المغربي، وإلى عصابة انفصالية.
بعد قُرابة نصف قرن من الاستخدام الجزائري لبوليساريو، ها هي اليوم تتابع، كما لا شك تابعت أمس، كيف خَبَا ويخْبُو المسار الانفصالي في العالم وكيف تحوَّل ذلك المفهوم وذلك المسعى إلى قعر مُتلاشيات حركة التاريخ. وها هي اليوم أيضا، لا تسمع من المجتمع الدولي، مؤسسات ودولا إلا الدعوة إلى حل عبْر “التسوية الواقعية”. “التسوية” تنزع عنها ضِدِّيَتها، تفرض عليها استعادة أواصرها الوطنية، في سياق مُتاحات مقترح الحكم الذاتي، الذي يفتح في مساحاته الديمقراطية مُتَّسعا للاختلاف والتفاعل بين كل الحساسيات الوطنية.
“التسوية” فيها الاعتراف المتبادل بشرعيات التعبير عن تنوع مكونات الهوية المغربية. أما “الواقعية” فهي التحقق العملي للعقلانية.. للتخلُّص من تهيُّؤات وخَيالات وأوْهام انْفصالية محشوَة بتوابل “ثَوْرَوِيَّة” ومُلوَّنة بمطامع انْتفاعات شخصية تزيِّنها لأصحابها قيادة الجزائر. وهي التي لا تنشغل بأمر، قدْر انشغالها بالكيْد ضد المغرب، وما جماعة بوليساريو إلا حَطَب في نيران كيدها.
“الواقعية” هي استيعاب حقائق التاريخ، في أصلها أمس، وفي جريانها الواقعي الملموس اليوم، والتحرُّر من تطلعاتٍ قائمة على مزاعم. تلك “الواقعية” يشرحها ويؤكد عليها الدبلوماسي الأميركي، هاريس، في الرباط، حين أوضح “بأن مُقترح الحكم الذاتي هو الحل الواقعي، الجاد وذو مصداقية”.. في تندوف أعلن عن المفهوم، وفي الرباط فصَّل في ذلك المفهوم. وتفصيله هو “مقترح الحكم الذاتي”. وهو المقترح الأوْحد المُنير لمسلك الحلّ الممكن، لمنازعة جزائرية لحقٍّ مغربي. مُنَازعة تقول عدة دول وازنة لقيادة الجزائر أنها فقدت مُبررها وانتهى عمرها المتوهَّم.
بوليساريو أزعجها ما نوَّه إليه الدبلوماسي الأميركي ونبَّه إليه في تندوف، فردت عليه ببيَان من تندوف، مُوحَى به من خارجها، تقول فيه “بأن الدخول في متاهة المصطلحات الفضفاضة من قبيل الواقعية يقود إلى تعميق حالة الجمود وإلى تقليص فُرص التوصل إلى حلٍّ سلمي..”. وهو كلام ينبغي تنسيبه لصاحبه، وليس لقيادة بوليساريو. وصاحبه هو قيادة الجزائر، والتي “اعتقلت” الجماعة الانفصالية في وهم فضفاض ليست حِمْلاً لَهُ، ويشُلُّ قُدُرَاتِها على الحركة الذاتية ويُعيقُها على تقرير مصيرها، بالانْدِماج في مسار تحقيق الحكم الذاتي في الأقاليم الصحراوية المغربية.
للأسف غيرت بوليساريو جِلْدها حين زاغت عن منْشئِها الوطني وانْجرَّت، مُجرد أداة، في حِسابات قيادة الجزائر الخاصة بها. وحتى اليومَ لا تملك قرارَها لكي تنْخرط في مسار الحلّ السلمي الواقعي، الدائم، العادل والمُتوافق عليه، والذي لا يفتحه ولا يقود إليه إلا مُقترح الحكم الذاتي الذي بادر به ملك المغرب محمد السادس، طوْعا.. وحِرصا منه على وحدة الوطن المغربي، شعبًا وأرضًا، وإسهاما منه في صيانة الأخُوّة المغربية – الجزائرية. وأصلا، أملا في توفير سلام دائم في المنطقة ولفائدة شعوبها. وهو في ذلك منسجم مع المجرى الواقعي والصحيح للتاريخ. وقبل ذلك، مقترحه هو انتصار للحق التاريخي الوطني للمغرب في وحدته ولتعزيز شروط تقدمه.