يوم من عمري

جورنال2413 يناير 2022
جورنال24
خواطر من زمن كورونا
يوم من عمري أحلام

أبو جاد  - جورنال 24يوم من عمري

استيقظت ذاك الأحد البارد الذي تزامن مع نهاية شتنبر لسنة 1993.
وضعت جسدي داخل بدلتي الرياضية الزرقاء اليتيمة وانتعلت حذاء ابيض لا يتناسب مع الفصل الذي نعيشه ولا مع مقاس قدمي ، ثم توجهت نحو حينا القديم الذي غادرناه ازيد من تسع سنوات ولم تعد لنا به أي صلة ولا بسكانه .
لم أكن أدري لماذا قررت فجأة هاته الزيارة .
هل هو الهروب المؤقت من عالمي المظلم أو لوضع المقارنة بيني وبين من كانوا ذات يوم زملاء وأصدقاء؟
قطعت الثلاثة كيلومترات الفاصلة تقريبا بين حينا القديم والحي الذي نقطنه ، لم اتوقف إلا وانا عند امي زهرة بائعة البيصارة اللذيذة التي كانت تتواجد كل صباح قرب دار التوزاني .
ملات بطني بما يسكت عصافير الجوع ثم تابعت طريقي نحو من تمنيت لو عدت لزيارتهم في وضع احسن واريح .
لكن لليأس والفراغ عيون لا تبصر يا صديقي.
كان اول شخص فكرت في زيارته هو ( رشيد صبري ) ذاك الشاب الأنيق الذي شاركني فصول الاعدادي الأربعة
اعتقد ان السبب الحقيقي لهذه الزيارة الغير محسوبة هو البحث عن العزاء عند أشخاص لم أعد اعلم ما فعل الزمان
بظروفهم ولا بمشاعرهم .
الساعة العاشرة وانا اقترب من بيت ( رشيد صبري ) لاح لي قرب بيتهم وهو يفتح باب سيارة رمادية من نوع (رونو 18).
ناديته مبتسما : رشيد … رشيد
استدار نحوي في استنكار وهو يسأل مقطبا مابين حاجبيه .:
من ؟
أجبته بصوت ممزوج بالخدلان :
انا هاني زميلك بثانوية طه حسين .
وكأنه أراد قطع كل خيوط هاته الزيارة الثقيلة دخل سيارته وهو يهمس :
لم أعد أتذكر أحدا.
نظرت بشفقة إلى يدي التي ظلت ممدودة دون أن يصافحها ثم مسحتها على بطني وكأنني بذلك ارد لها اعتبارها .
فكرت في زيارة جارنا ( عبد المنعم مصليح ) ذاك الشاب الرقيق الراقي الذي طالما أكرمني ببيتهم الذي كان يتصرف داخله كأمير لأنه كان وحيد والديه الميسورين مقارنة مع سكان الحي .
وانا في طريقي نحو بيتهم راعني صوت (الدقايقية ) أسرعت الخطى لاقترب منهم فلدي كل الوقت .
شاب ثلاثيني يجر خلفه عجلة تحاول ان تنفلت من العقال المربوطة به وبعض النسوة يمشين خلف عربة الكارو وهن يرددن بعض اللازمات المشهورة آنذاك خلف الشاب الراقص فوق العربة الذي كان يلبس لباسا نسويا .
رفعت عيناي صوب هذا الشاب ذي الصوت النسوي المبحوح فإذا بي أجده صديق الدراسة بقسم الخامس ابتدائي.
انه ( الكحل سعيد ) ذاك الصبي الخجول .
ياالاهي ما الذي اوصله إلى هذا الحال ؟
تراجعت إلى الخلف تجنبا لإحراجه لكنه لمحني ولوح لي بيده مبتسما بدلال وغنج .
تذكرت المثل الشعبي ( للي يشطح مايدرك لحيتو ).
في تمام الساعة العاشرة والنصف تقريبا كنت امام بيت (عبد المنعم مصليح) .
طرقت الباب ليفتح لي من طرف ( امي فاطنة) ام صديقي ذات الوشم البارز.
وكأنها لم تتذكرني سألت في استغراب :
من انت يا ابني؟
لم اتوقع خيرا من خلال سؤالها الممزوج بالحسرة واليأس.
انا هاني صديق ابنك عبد المنعم هل نسيتني يا امي؟
دنت مني وضمتني إلى صدرها وهي تردد بصوت أقرب إلى النواح :
واش جيتي تفكرني في وليدي اوليدي ؟
واصاحبك داه البحر الغدار في 86 اوليدي .
وراني ولدت مع الوالدات وصرت مع العاكرات ……
انسللت من بين ذراعيها برفق وانا استجدي الدمع الذي يخدلني في مثل هاته المناسبات .
تابعت طريقي وانا اردد :
الصبر يا امي. الصبر يا امي……
ماان ابتعدت عن بيت صديقي المرحوم (عبد المنعم مصليح ) حتى لمحت (للا حبيبة ) زوجة أب زميلي في التسكع والشغب ( حسن مصباح ) واقفة كالعادة امام البيت الذي تقطنه . بادرتني بالسؤال بطريقتها الوقحة :
اش جابك لهذ الدرب عاوتاني ؟
أجبتها في حياء :
جيت نسول على ولدك حسن .
مصمصت شفتيها المكتنزتين وقالت :
هذاك المسخوط ديال ربيبي راه ولا ساكن في ( سباتة ) مع شي مساخيط بحالو .
رجوتها ان تمدني بعنوانه فلا شيء ينتظرني .
وصفت لي العنوان بشكل دقيق خاتمة قولها :
الا سعفتيني ماعندك ماتدير به .
كنت امام البيت الذي يقطنه (حسن مصباح ) في تمام الثانية عشر ونصف .
سألت صبيا يلهو امام البيت ان كان يعرف الطابق الذي يسكنه (حسن مصباح) ؟ ابتسم ابتسامة ماكرة وهو يجيبني :
حسن الظلام ماشي المصباح راه في الطابق الرابع .هههههه.اسمو مصباح والدروج مافيهومش الضو . هههههه
بصعوبة بالغة وصلت الطابق الثاني ولم أعد أرى أي شيء .
العتمة وما ادراك ما العتمة .
وقفت متسمرا في مكاني الذي زاده وحشة مواء بعض القطط المنبعث من أعلى.
فجأة سمعت صوت خطوات . تفاألت خيرا .
احسست بصاحب الخطوات صار قريبا مني . سألته ان كان له عود ثقاب لينير لنا هاته العتمة
لم يجبني لكنه جاء خلفي وطوق عنقي بذراعه القوية وبدأ يفتش في جيوبي التي ستخدله فانا لا املك الا دراهم معدودة .
فجأة فتح باب الشقة الموجودة أمامنا.
جذب ذراعه التفت نحوه كخروف لا يصدق انه اعفي من الذبح .
يالله انه (حسن مصباح ) الذي قدمت لأجله.
تعرف علي . خر على الأرض وهو يقول ؛
ناري اش درت ؟
حاول أن يقبل رأسي لكنني تراجعت إلى الخلف وبدأت أنزل الدرج الضيق غير حافل بالظلام ولا بأي شيء آخر.
اتجهت نحو بيتنا وانا اردد :
اي لعنة هاته التي أصابتني هذا اليوم ؟
اي لعنة هاته التي طاردتني طيلة 28 سنة مضت ؟
اي لعنة هاته التي طاردت اصدقائي وكل أبناء جيلي ؟

 

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة