لا يفوتني قبل خوض غمار هذه المداخلة التي عنونتها ب: “قراءة عاشقة لأسئلة حارقة.. الكتابة والفن وخطاب الأزمة”، والتي هي بالأصل وكما يدل عليها عنوانها، والعنوان عتبة والعتبة دالة، أن أشير حيث وجبت الإشارة، إلى أنها قراءة عاشقة أكثر منها متخصصة، وهي بمثابة “فيزيون ” كما الموسيقى.. حاولت من خلالها ان أزواج بين سؤال الكتابة وسؤال الفن.. وخطاب الأزمة، لما لا؟! لطالما هما معا، بالأصل، إبداع إنساني!
الفن المعاصر يا سادة! حديث الساعة! وموضوع نقد وفكر وفلسفة وكتابة.. فالسؤال عن ماهية الفن المعاصر سؤال شائك مثلما أسئلة أخرى في مجالات أخرى، لها حساسيتها الخاصة، لأنه مفروض فيها أن تصور العالم من أجل عالم أفضل.. ولذلك؛ فهذه المجالات ليست بمستثناة من هذه الأسئلة الوجودية الحارقة والحارقة جدا.
وكما أشرت بداية على أنها قراءة عاشقة غير متخصصة، تنطلق من شغف عميق بالكتابة والفن. ومع ذلك، فاختيار هذا العنوان لم يكن اختياراً عبثياً. فالعنوان نفسه يحمل في طياته تلك العلاقة المعقدة بين الكتابة والفن، بين الإبداع والواقع، وبين التساؤل والأزمة. هي قراءة عاشقة لأنها تنبع من وجدان كاتبة تتلمّس طريقها وسط تناقضات العصر. وهي أسئلة حارقة لأنها لا تنفك تطاردنا جميعاً: لماذا نكتب؟ لماذا نبدع؟ لماذا نرسم العالم؟ وهل للكتابة عموماً والفن خصوصاً؛ القدرة على مواجهة الأزمات؟!
*إياك أعني واسمعي يا جارة.. لماذا نكتب ولماذا نرسم العالم؟!
كتبتُ في إحدى مقالاتي التي أثارت اهتماماً واسعاً بعنوان “لماذا أكتب” والتي تداولتها العديد من المنابر الوطنية والعربية على حد سواء.. “لعلي أكتب للتنفيس؛ فكثر هم يكتبون لأن الكتابة ملاذهم الأول والأخير والملجأ الذي يقصدونه للهروب من واقع مليء بالمتناقضات لعالم المثل والممكنات.. فالكتابة رئتي الثانية التي أطرح من خلالها ثاني “اوكسيد الكاربون” الذي يفسد الحياة، بل إنه “الادرينالين” الذي يساعدني على البقاء والاستمرار والتعايش مع كل هذه المتناقضات.” مقتطف..
فالكتابة إذا ليست رفاه؛ بل عصيان لهذا الواقع، وصياغة جديدة للممكنات.
ومع ذلك، “فالكتابة ليست دائماً بريئة؛”فإنها قد تزيغ إذا ما استحوذ على صاحبها غرور الإحساس بصفة الكاتب، فتصير الكتابة لصيقة بصاحبها في نظر من يكتب وفي نظر الآخرين، فتصطاده شباك الشهرة قل حجمها أو صغر..” مقتطف.
وكأني بذلك “أعني واسمعي يا جارة”، فالكتابة عموما والفن خصوصا هي فعل مقاومة مستمر؛ مقاومة للزمن، للصمت، وللحالة السائدة والتي سمتها التراجع القيمي والفكري. وفي ظل هذا السياق، لا يمكن البتة، للكاتب أو الفنان أو المبدع عموما، أن يتجاهل مسؤوليته.
إن الكلمة هي فعل تعبيري تغييري بامتياز، لكنها أيضاً ساحة معركة يخوضها الكاتب ضد الإغراءات السطحية التي تجعل من الكلمة وسيلة للتزييف بدل الإبداع.
وكذلك عندما يمسك الفنان بريشته، يتحول إلى أكثر من مجرد خالقٍ للصور، بل يصبح وسيطاً يعبر عن رؤيته للعالم بكل تعقيداته وأبعاده. ريشة الفنان ليست مجرد أداة للخلق، بل وسيلة للتعبير عن الأفكار العميقة والمشاعر الإنسانية. فكما قال الرسام الفرنسي بول سيزان: “الطبيعة هي عالمي، وكل ما حولي هو جزء من اللوحة”. من خلال هذا التصور، تعكس ريشته صراعاً بين الظلال والنور، بين الجمال والفوضى، وبين الأمل والخذلان.
علاوة على ذلك، يعزز هذا التعبير فلسفة عميقة تعكس نظرة العالم من خلال رؤى المفكرين مثل جان بول سارتر الذي قال: “الوجود مسبقٌ للماهية”، فالفن يتيح فرصة للتفكير في الوجود البشري من خلال إبداع الفنان وابتكاره.
وأما جوزيف أليارد فعبر عن دور الفن في كشف عميق للوجود الإنساني وتسليط الضوء على القضايا الإنسانية العميقة: “الفن هو أعمق حقيقة للإنسانية، وهو وسيلة يعبر بها الإنسان عن وجوده والبحث عن المعنى.”
فلا معنى إذا للفنون دون معاني عميقة ولا معنى للإبداع إن لم يكن فلسفيا ومدعاة للتأمل والتفكير في الحياة من حولنا.
فسؤال لماذا نكتب؟ لملذا نرسم؟ لماذا نبدع؟ أسئلة مشروعة والإجابة عنها أو محاولة الإجابة عنها ضرورة ملحة!
*الإبداع.. بين الإخلاص والتمرد
في نص أدبي سابق نشرته تحت عنوان “لست إباحية.. بل بائحة”، عالجت فيه قضية معقدة تتعلق بحدود البوح والكتابة، اللذان يحملان أبعادًا تعبيرية وبين النظرة الاجتماعية أو الأخلاقية التي قد تُحاصر الكاتب. يقول المقتطف: “نحن بحاجة أنا وأنت لمساحة بوح، فلست إباحية أنا بل بائحة!… وشتان بين الإباحية والبوح، علي أن أكون عاهرة من أجل سيدات العالم وأن أتحدث في الممنوع، علي أن أقرع الطبول… كفانا صمتا!… كفانا نعيش دور المقموع!.”