لم يكن متوقعا أن ينزلق قرار محكمة العدل الأوروبية إلى تأييد الخيار الانفصالي في معالجتها لإحدى أكثر القضايا حساسية في العلاقات الخارجية للاتحاد الأوروبي والمتعلقة باتفاقات التجارة والزراعة والصيد البحري مع المغرب.
والاعتبارات التي استندت عليها المحكمة في المصادقة على الحكم الصادر عن المحكمة العامة للاتحاد الأوروبي في شتنبر 2021، والذي ألغى الاتفاقية بين المغرب والاتحاد الأوروبي حول مصايد الأسماك والمنتجات الزراعية، اعتبارات جعلت من قرارها قرارا سياسيا بامتياز.
وكانت المحكمة العامة قد قبلت، من جهة، أن تكون لجبهة البوليزاريو الأهلية القانونية لرفع دعاوى أمام الاتحاد الأوروبي. ومن جهة ثانية، قبلت وجهة نظر الجبهة الانفصالية بأن قبول “شعب الصحراء الغربية” شرط لتنفيذ الاتفاقيات التي تشمل المنطقة، رافضة المشاورات التي قامت بها سلطات الاتحاد الأوروبي في الصحراء.
واليوم تؤيد محكمة العدل الأوروبية الحكم الصدر سنة 2021 على نفس الاعتبارات، مع الأخذ بعين الاعتبار انتهاء بروتوكول تطبيق الاتفاقية في 17 يوليوز 2023، والتي علقت نشاط الصيد في المنطقة.
وتطرح طبيعة الاعتبارات التي تأسس على القرار اليوم ومن قبل سنة 2021 عدة إشكالات تجعله متهافتا وغير منطقي وغارقا في الاعتبارات السياسية.
فالمحكمة حسمت في أمرين لم تستطع لا محكمة العدل الدولية ولا مجلس الأمن الحسم فيهما لأزيد من خمسة عقود.
المسألة الأولى تتعلق بحصر تمثيل “الشعب الصحراوي” في جبهة البوليزاريو الانفصالية.
وحول هذه المسألة نسجل الملاحظات التالية:
الملاحظة الأولى، رغم أن المحكمة اعتمدت حجة عدم شمول الاستشارة التي قامت بها سلطات الاتحاد الأوروبي من قبل لجزء من “الشعب الصحراوي” يعيش خارج الأرض كحجة أساسية للحكم ببطلان الاتفاق بين المغرب والاتحاد، إلا أنها لم تعتمد نفس الحجة في إعطاء الأهلية القانونية لتمثيل ذلك “الشعب” للجبهة الانفصالية في النازلة التي تنظر فيها دون أن تكون هناك استشارة لا للصحراويين الذين يعيشون على أرضهم المغربية ولا الذين يعيشون خارجها. وكونها استندت إلى اعتبار الجبهة طرفا رسميا في الملف لدى الأمم المتحدة في اكتساب تلك الأهلية فهو لا يلغي حجة استشارة “الشعب الصحراوي” في النازلة.
وهذا تهافت بين في اعتماد نفس الحجة، لكن مع الكيل بمكيالين.
الملاحظة الثانية، المحكمة وهي تخوض في البعد السياسي لملف الصحراء المغربية، تحصر عمليا شرعية تمثيل “الشعب الصحراوي” على الجبهة الانفصالية ولا تعطيها لآلاف المنتخبين الصحراويين الذين يمثلون السكان تمثيلا شرعيا في إطار قوانين المملكة ودستورها مند عدة عقود. ولا لعشرات زعماء القبائل الصحراوية الذين يعيشون على أراضيهم.
الملاحظة الثالثة، وهي أن المحكمة بذل طلب شمول الاستشارة لسكان تندوف أيضا لتشكل رأيها حول موقف “الشعب الصحراوي” حول اتفاقيات المغرب والاتحاد الأوروبي، اكتفت بما تقوله الجبهة الانفصالية. وكان عليها أمر السلطات الأوروبية التي أجرت الاستشارة الأولى، ان توسعها لتشمل الصحراويين المحتجزين في تندوف أيضا. لذلك فهي افترضت أن هؤلاء السكان يرفضون تلك الاتفاقيات دون أن تستشيرهم.
المسألة الثانية هي حصر صفة “الشعب الصحراوي” في الأشخاص المحتجزين في تندوف ونزعها من الذين يعيشون أحرارا على أرض الصحراء المغربية.
فالمحكمة وهي تطعن في الاستشارة التي قامت بها السلطات الأوروبية من قبل على أساس أنها شملت فقط السكان الذين يعيشون في أرض الصحراء، سجلت ملاحظتين، الأولى تقول فيها أن الذين يعيشون اليوم على أرض الصحراء ليسوا كلهم من “الشعب الصحراوي” والثانية أن “جزء معتبر”،( نعم هكذا)، من هؤلاء السكان الذين يعيشون الآن خارج تلك المنطقة لم تشملهم تلك الاستشارة.
ويمكن تسجيل عدة ملاحظات حول هذا التعامل المختل في هذا المستوى.
الملاحظة الأولى، والغريبة فعلا، هي في ظل الإشكالية المتعلقة بمدلول “الشعب الصحراوي” من الناحية القانونية والسياسية معا، كيف جزمت المحكمة بكون من يعيشون خارج أرض الصحراء يمثلون جزءا معتبرا؟ وهو حكم قيمة. هل تملك المحكمة إحصاء رسميا معترفا به دوليا؟ أم أن الأمر يتعلق بعبارة تريد تضخيم تلك الفئة من الصحراويين لتبرير قرارها السياسي.
الملاحظة الثانية، تعطي المحكمة لنفسها الحق في حسم مأسلة هي في التقدير خارج اختصاصها، ذلك أن تحديد من هو ضمن “الشعب الصحراوي” ومن هو خارجه، مشكلة معقدة فشلت مؤسسات الأمم المتحدة طيلة عقود في الحسم فيها، لاعتبارات أهمها رفض الجبهة الانفصالية إجراء إحصاء للصحراويين المحتجزين في تندوف، وتعقيدات تتعلق بمعايير تحديد من هو الصحراوي، وتلاعبات البوليزاريو في الشأن أيضا. وهي الاعتبارات والتعقيدات التي جعلت من الاستفتاء حول تقرير المصير غير قابل للانجاز.
الملاحظة الثالثة، المحكمة التي أقحمت نفسها في الجانب السياسي من الملف، لم تقل أين يعيش ذلك “الجزء المعتبر” من “الشعب الصحراوي”؟ وهل تقصد الذين يعيشون في مخيمات تندوف؟ أم الذين يتم تسفيرهم إلى كوبا للتدريب على حمل السلاح؟ أم الذين تمول الجزائر إقاماتهم في الفنادق لمضايقة المغرب في المنتظمات الدولية في أوروبا وأمريكا؟ وهل كل من تدعي الجبهة الانفصالية أنهم صحراويون هم كذلك عملا بمنطق المحكمة في اللمز من السكان الذين يعيشون على أرض الصحراء؟
والملاحظة الرابعة، المحكمة وهي تقع في فخ الانفصالية في مسألة الصحراويين في تندوف، لم تفتح أي تحقيق يساعدها في بيان ما إذا كان الصحراويون في تندوف أحرارا يتمتعون حتى بحق اختيار مكان عيشهم، علما أنهم إن أرادوا العودة إلى أراضيهم لا يجدون أمامهم سوى خيار المغامرة بالفرار ومن ضبط متلبسا بمحاولة الالتحاق بأرضه يعاقب، وتشهد مئات الحالات على ذلك. فهل يتعلق الأمر بسكان أحرار في اختياراتهم؟ أم بمحتجزين ترتزق بهم الجبهة المساعدات الدولية التي كشفت عدة تقارير أنه الجبهة تتجار بها وترفض إحصاء السكان لتستمر في استعمالهم كورقة ضغط وابتزاز المجتمع الدولي.
إن الخلاصة العامة حول قرار محكمة العدل الدولية هو أننا أمام قرار سياسي منحاز، كال بمكيالين في قضية حساسة. المحكمة التي اختارت أن تمارس السياسة لم تراعي التطورات التي عرفها الملف على المستوى السياسي والديبلوماسي، ليس على المستوى العالمي فقط، بل على مستوى الاتحاد الأوروبي بالخصوص.